سورة البقرة - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها الله بقوله: {ياأيها الذين آمنوا} وهذا الاستهلال كما نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الاستهلال من حكم، يكون الإيمان هو حيثية ذلك الحكم، فما دمت قد آمنت بالله فأنت تطبق ما كلفك به؛ لأن الله لم يكلف كافراً، فالإنسان كما قلنا سابقاً حر في أن يُقبل على الإيمان بالله أو لا يُقبل.
فإن أقبل الإنسان بالإيمان فليستقبل كل حكم ن الله بالتزام. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى إن الإنسان حين يكون مريضاً، هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو لا يذهب، ولكن حين يذهب الإنسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالإنسان لا يسأل الطبيب وهو مخلوق مثله: لماذا كتبت هذه العقاقير؟.
إن الطبيب يمكن أن يرد: إنك كنت حرا في أن تأتي إليّ أو لا تأتي، لكن ما دمت قد جئت إلى فاسمع الكلام ونفذه. والطبيب لا يشرح التفاعلات والمعادلات لا، إن الطبيب يشخص المرض، ويكتب الدواء. فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق الأعلى بالإيمان؟
إننا نفذ أوامره سبحانه، والله لا يأمر المؤمن إلا عن حكمة، وقد تتجلى للمؤمن بعد ذلك آثار الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بالله. يقول الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} وعندما نتأمل قول الحق: {تَدَايَنتُم} نجد فيها (دَيْن)، وهناك (دِين)، ومن معنى الدِيّن الجزاء، ومن معنى الدِّين منهج السماء، وأما الدَّيْن فهو الاقتراض إلى موعد يسدد فيه. هكذا نجد ثلاثة معان واضحة: الدِّين: وهو يوم الجزاء، والدَّيْن وهو المنهج السماوي والدَّيْن: هو المال المقترض.
والله يريد من قوله: {تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} أن يزيل اللبس في معنيين، ويبقى معنى واحداً وهو الاقتراض فقال: {بِدَيْنٍ} فالتفاعل هنا في مسألة الدَيْن لا في الجزاء ولا في المنهج، والحق يحدد الدَيْن بأجل مُسمّى. وقد أراد الله بكلمة (مُسمّى) مزيداً من التحديد، فهناك فرق بين أجل لزمن، وبين أجل لحدث يحدث، فإذا قلت: الأجل عندي مقدم الحجيج. فهذا حدث في زمن، ومقدم الحجيج لا يضمنه أحد، فقد تتأخر الطائرة، أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في الحجر الصحي.
أما إذا قلت: الأجل عندي شهران أو ثلاثة أشهر فهذا يعني أن الأجل هو الزمن نفسه، لذلك لا يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لأنه من الجائز ألا يحدث ذلك الشيء في هذا الزمن. إن التداين بديْن إلى أجل مُسمى يقتضي تحديد الزمن، والحق يوضح لنا: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} وكلمة {فاكتبوه} هي رفع لحرج الأحباء من الأحباء.
إنه تشريع سماوي، فلا تأخذ أحد الأريحية، فيقول لصاحبه: (نحن أصحاب)، إنه تشريع سماوي يقول لك: اكتب الديْن، ولا تقل: (نحن أصدقاء) فقد يموت واحد منكما فإن لم تكتب الديْن حرجاً فماذا يفعل الأبناء، أو الأرامل، أو الورثة؟.
إذن فإلزام الحق بكتابة الديْن هو تنفيذ لأمر من الله يحقق رفع الحرج بين الأحباء. ويظن كثير من الناس أن الله يريد بالكتابة حماية الدائن. لا، إن المقصود بذلك والمهم هو حماية المدين، لأن المدين إن علم أن الديْن عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي ديْنه، أما إذا كان الدين غير موثق فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الديْن. وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة واحدة، ثم يضن المجتمع الغني على المجتمع الفقير فلا يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك الإنسان عن السداد ذريعة لذلك، ويقع هذا الإنسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف، لأنه ضيّق باب القرض الحسن.
إن الله يريد أن يسير دولاب الحياة الاقتصادية عند من لا يملك، لأن من يملك يستطيع أن يسيّر حياته، أما من لا يملك فهو المحتاج. ولذلك فهناك مثل في الريف المصري يقول: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. إنه يقترض ويسدد، لذلك يثق فيه كل الناس، ويرونه أميناً ويرونه مُجداً، ويرونه مخلصاً، ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفّى، فكل المال يصبح ماله.
إذن فالله سبحانه بكتابة الديْن يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لأن الواجد في غير حاجة إلى القرض. لذلك جاء الأمر من الحق سبحانه: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه}. ومن الذي يكتب الديْن؟.
انظر الدقة: لا أنت أيها الدائن الذي تكتب، ولا أنت أيها المدين، ولكن لابد أن يأتي كاتب غير الاثنين، فلا مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله}. وفي ذلك إيضاح بأن الإنسان الذي يعرف الكتابة إن طُلب منه أن يكتب ديْناً ألا يمتنع عن ذلك، لماذا؟ لأن الآية آية الديْن قد نزلت وكانت الكتابة عند العرب قليلة، كان هناك عدد قليل فقط هم الذين يعرفون الكتابة، فكان هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة.
ولكن إن لم يُطْلَب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن فماذا يفعل؟. إن الحق يأمره بأن يتطوع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح (فليكتب)؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل.
هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق، أو هو غير قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة، إنه يندب نفسه للعمل، فلا مجال للتجربة.
والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 47-48].
وقال سيدنا يوسف: {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
إن المسألة جدب فلا تحتمل التجربة، وهو كفء لهذه المهمة، يملك موهبة الحفظ والعلم، فيندبُ نفسه للعمل. كذلك هنا {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} إذا طلب منه وإن لم يطلب منه وتعين {فَلْيَكْتُبْ}.
وهذه علة الأمرين الاثنين، وما دامت الكتابة للتوثيق في الدَّيْن؛ فمن الضعيف؟ إنه المدين، والكتابة حجة عليه للدائن، لذلك يحدد الله الذي يملل: الذي عليه الديْن، أي يملي الصيغة التي تكون حجة عليه {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} ولماذا لا يملي الدائن؟ لأن المدين عادة في مركز الضعف، فلعل الدائن عندما تأتي لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد، وقد يخجل المدين أن يتكلم ويصمت؛ لأنه في مركز الضعف. ويختار الله الذي في مركز الضعف ليملي صيغة الديْن، يملي على راحته، ويضمن ألا يُؤخذ بسيف الحاجة في أن موضع من المواضع.
لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو؟ إن الحق يضع القواعد {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إلا أنه لا يمتلك أهلية التصرف. والضيف هو الذي لا يملك القدرة التي تُبلغه أن يكون ناضجا النضج العقلي للتعامل، كأن يكون طفلا صغيرا، أو شيخا بلغ من الكبر حتى صار لا يعلم من بعد علمه شيئا، أو لا يستطيع أن يمل. أي أخرس فيقول بالإملاء الولي أو القيمّ أو الوصيّ.
ويأتي التوثيق الزائد: بقوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}.
ولننظر إلى الدقة في التوثيق عندما يقول الحق: {واستشهدوا} نستشهد ونكتب، لأنه سبحانه يريد بهذا التوثيق أن يؤمّن الحياة الاقتصادية عند غير الواجد؛ لأن الحاجة عندما تكون مؤمَّنَة عند غير الواجد فالدولاب يمشي وتسير حركة الحياة الاقتصادية؛ لأن الواجد هو القليل، وغير الواجد هو الكثير، فكل فكر جاد ومفيد يحتاج إلى مائة إنسان ينفذون التخطيط.
أن الجيب الواجد الذي يصرف يحتاج إلى مائة لينفذوا، ولهذا تكون الجمهرة من الذين لا يجدون، وذلك حتى يسير نظام الحياة؛ لأن الله لا يريد أن يكون نظام الحياة تفضلا من الخلق على الخلق، إنما يريد الله نظام الحياة نظاما ضروريا؛ فالعامل الذي لا يعول أسرة قد لا يخرج إلى العمل، لذلك فالحق يربط خروج العامل بحاجته.
إنه يحتاج إلى الطعام ورعاية نفسه وأسرته فيخرج اضطرارا إلى العمل، وبتكرار الأمر يعشق عمله، وحين يعشق العمل فهو يحب العمل في ذاته.
وبذلك ينتقل من الحاجة إلى العمل، إلى حب العمل في ذاته، وإذا ما أحب العمل في ذاته، فعجلة الحياة تسير. والحق سبحانه حين يحدد الشهود بهذا القول: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ}.
ولماذا قال الحق: {شَهِيدَيْنِ} ولم يقل (شاهدان)؟ لأن مطلق شاهد قد يكون زوراً، لذلك جاء الحق بصيغة المبالغة. كأنه شاهد عرفه الناس بعدالة الشهادة حتى صار شهيدا. إنه إنسان تكررت منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه الناس على ذلك، وهذا دليل على أنه شهيد. وإن لم يكن هناك شهيدان من الرجال فالحق يحدد لنا {فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء}.
إن الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا على قدر طاقتنا أي من نرضى نحن عنهم، وعلل الحق مجيء المرأتين في مقابل رجل بما يلي: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}؛ لأن الشهادة هي احتكاك بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما يحدث. والمرأة بعيدة عن كل ذلك غالبا.
أن الأصل في المرأة ألا علاقة لها بمثل هذه الأعمال، وليس لها شأن بهذه العمليات، فإذا ما اضطرت الأمور إلى شهادة المرأة فلتكن الشهادة لرجل وامرأتين؛ لأن الأصل في فكر المرأة أنه غير مشغول بالمجتمع الاقتصادي الذي يحيط بها، فقد تضل أو تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، وتتدارس كلتاهما هذا الموقف، لأنه ليس من واجب المرأة الاحتكاك بجمهرة الناس وبخاصة ما يتصل بالأعمال.
وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} فكما قال الحق عن الكاتب ألا يمتنع عن توثيق الديْن، كذلك الشهادة على هذا الديْن. وكيف تكون الشهادة، هل هي في الأداء أو التحمل؟ إن هنا مرحلتين: مرحلة تحمل، ومرحلة أداء.
وعندما نطلب من واحد قائلين: تعال اشهد على هذا الديْن. فليس له أن يمتنع، وهذا هو التحمل. وبعدما وثقنا الديْن، وسنطلب هذا الشاهد أمام القاضي، والوقوف أمام القاضي هو الأداء. وهكذا لا يأبى الشهداء إذا ما دعوا تحملا أو أداءً.
لكن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن كل نفس بشرية لها مجال حركتها في الوجود ويجب ألا تطغى حركة حدث على حدث، فالشاهد حين يُستدعى بضم الياء ليتحمل أولا أو ليؤدي ثانيا ينبغي ألاّ تتعطل مصالحه؛ إن مصالحه ستتعطل؛ لأنه عادل، ولأنه شهيد، لذلك يضع الله لذلك الأمر حداً فيقول: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
إذن فالشهادة هنا تتطلب أن نحترم ظرف الشاهد. فإن كان عند الشاهد عمل أو امتحان أو صفقة أو غير ذلك، فلنا أن نقول للشاهد: إما أن تتعين في التحمل حيث لا يوجد من يوثق به ويطمأن إليه أما في الأداء فأنت مضطر.
إن الشاهد يمكنه أن يذهب إلى أمره الضروري الذي يجب أن يفعله، فلا يطغى حدث على حدث، لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له قدرة السيطرة على عمله بدرجة ما. وإن لم نجد غيره، فماذا يكون الموقف؟
لقد قال الحق: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} إذن فعلينا أن نبحث له عن (جُعْل) يعوض عليه ما فاته، فلا نلزمه أن يعطل عمله وإلا كانت عدالته وَبالاً عليه، لأن كل إنسان يُطلب للشهادة تتعطل أعماله ومصالحه. والله لا يحمي الدائن والمدين ليضر الكاتب أو الشهيد.
وقوله الحق لكلمة: {يُضَآرَّ} فمن الممكن أن تأتي الكلمة على وجهين في اللغة، فمرة تأتي {يُضَآرَّ} بمعنى أن الضرر يأتي من الكاتب أو الشهيد، ومرة أخرى تأتي كلمة {يُضَآرَّ} بمعنى الضرر يقع على الكاتب أو الشهيد. فاللفظ واحد، ولكن حالة اللفظ بين الإدغام الذي هو عليه حسب قواعد اللغة وبين فكه هي التي تُبَيِّنُ لنا اتجاه المعنى. فإن قلنا: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} بكسر الراء، فالمعنى في هذه الحالة هو أن يقع الضرر من الكاتب فيكتب غير الحق، أو أن يقع الضرر من الشهيد فيشهد بغير العدل.
وإن قلنا: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} بفتح الراء فالمنهي عنه هو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد من الذين تؤدي الكتابة غرضا لهم، وتؤدي الشهادة واجبا بالنسبة لهم؛ ليضمن الدائن دَيْنه، وليستوثق أن أداءه محتم.
والكاتب والشهيد شخصان لهما في الحياة حركة، ولكل منهما عمل يقوم به ليؤدي مطلوبات الحياة، فإذا عُلِمَ بضم العين وكسر اللام وفتح الميم أنه كاتب أو شهد بأنه عادل، عند ذلك يتم استدعاؤه في كل وقت من أصحاب المصلحة في المداينة، وربّما تعطلت مصالح الكاتب أو الشهيد.
ويريد الله أن يضمن لذلك الكاتب أو الشهيد ما يبقى على مصلحته. ولذلك أخذت القوانين الوضعية من القرآن الكريم هذا المبدأ، فهي إن استدعت شاهدا من مكان ليشهد في قضية فإنّها تقوم له بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا، وإن اقتضى الأمر أن يبيت فله حق المبيت وذلك حتى لا يضار، وهو يؤدي الشهادة، وحتى لا يتعطل الشاهد عن عمله أو يصرف من جيبه.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يضمن مصالح الجميع لا مصلحة جماعة على حساب جماعة.
ويقول الحق في هذه (المضارة): {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي وإن تفعلوا الضرر من هذا أو من ذاك فإنه فسوق بكم، إنه سبحانه يحذر أن يقع الضرر من الكاتب أو الشهيد، أو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد.
ففعل الضرر فسوق، أي خروج عن الطاعة.
والأصل في (الفسق) هو خروج الرطبة من قشرتها، فالبلح حين يرطب تكون القشرة قد خلعت عن الأصل من البلحة، فتخرج الثمرة من القشرة فيقال: (فسقت الرطبة). ومنها أخذ معنى الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله في كل ما أمر.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {واتقوا الله} وعلمنا من قبل معنى كلمة (التقوى) حين يقول الله: {واتقوا الله} أو يقول سبحانه: {واتقوا النار} {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله}، وكل هذه المعاني مبنية على الوقاية من صفات جلال الله، وجبروته، وقهره، وإذا قلنا: {واتقوا النار} فالنار من جنود صفات القهر لله، ف {واتقوا الله} هي بعينها {واتقوا النار} هي بعينها {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله}.
ويقول الحق سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله}. وهنا مبدأ إيماني يجب أن نأخذه في كل تكليف من الله؛ فإن التكاليف إن جاءت من بشر لبشر، فأنت لا تنفذ التكليف من البشر إلا إن أقنعك بحكمته وعلته؛ لأن التكليف يأتي من مساوٍ لك، ولا توجد عقلية أكبر من عقلية، وقد تقول لمن يكلفك: ولماذا أكون تبعا لك وأنت لا تكون تبعا لي؟ إنك إذا أردت أن تكلفني بأمر من الأمور وأنت مساو لي في الإنسانية والبشرية وعدم العصمة فلابد أن تقنعني بحكمة التكليف.
أما إن كان التكليف من أعلى وهو الحق سبحانه وهو الله الذي آمنا بقدرته وعلمه وحكمته وتنزهه عن الغرض العائد عليه فالمؤمن في هذه الحالة يأخذ الأمر قبل أن يبحث في الحكمة؛ لأن الحكمة في هذا الأمر أنه صادر من الله، وحين ينفذ المؤمن التكليف الصادر من الله فسيعلم سر هذه الحكمة فيما بعد؛ فأسرار الحكم عند الله تأتي للمؤمن بعد أن يقبل على تنفيذ التكاليف الإيمانية.
إن الحق سبحانه على سبيل المثال لا يقنع العبد بأسرار الصوم، ولكن إن صام العبد المؤمن كما قال الله وعند ممارسة المؤمن لعبادة الصوم سيجد أثر حكمة الصوم في نفسه بما لا يمكن إقناعه به أولا. إن المؤمن حين يفعل التكليف الإيماني فإن الله يعلمه حكمة التكليف. ولنا في قوله سبحانه الدليل الواضح: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29].
إن الله سبحانه يَعِدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلائل تبين لهم الحق من الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم. لماذا؟ لأن الله الذي يعلمنا هو الحق سبحانه العليم بكل شيء.
وعلم الله ذاتي، أما علم الإنسان فقد يكون أثرا من ضغط الأحداث عليه فيفكر الإنسان في تقنين شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم الأعلى سابق على ذلك لأنه علم ذاتي.
وفيما سبق علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الديْن هذه العناية ليضمن للحياة حركتها الطاهرة، حركتها السليمة؛ لأن المعدم لا وسيلة له في حركة الحياة إلا أمور ثلاثة، الأمر الأول: الرِّفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة. والأمر الثاني: الفرض الذي فرضه الله في الزكاة. والأمر الثالث: القرض الذي شرعه.
فعندما لا يجد المؤمن المعدم الرفد أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟ إنه القرض. إذن فالقرض هو المفزَع الثالث للحركة الاقتصادية عند المعدمين. وعرفنا أن القرض عند الله يفوق ويعلو الصدقة في الثواب؛ لأن الصدقة حين تتصدق بها تكون قد خرجت من نفسك من أول الأمر فلا مشغولية لذهنك بعد ذلك، ولكن القرض نفسك تكون متعلقة به؛ لأنك لا تزال مالكاً له، وكلما صبرت عليه أخذت ثواباً من الله على كل صبرة تصبرها على المدين.
وعرفنا كذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد استوثق لعملية الديْن استيثاقا يجب أن نفهمه من وجهيه، الوجه الأول: أنه يحفظ بذلك ثمرة حركة المتحرك في الحياة وهي أن يتمول، أي أن يكون عنده مال؛ فإن لم نَحْم له ثمرة حركته في الحياة استهان بالحركة، وإذا استهان بالحركة تَعطلت مصالح كثيرة؛ لأن حركة المتحرك في الحياة تنفع بشراً كثيرين قصد المتحرك ذلك أو لم يقصد، وضربنا المثل بمن يريد بناء عمارة، وعنده مال، فيسلط الله عليه خاطراً من خواطره مصداقاً لقوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
فيقول: ولماذا أكنز المال؟ ولماذا لا أبني عمارة أستفيد من إيجارها؟. وبذلك لا يتناقص المال بل يزيد. وليس في بال ذلك الرجل أن ينفعَ أحداً. إن باله مشغول بأن ينفع نفسه، لكن حركته وإن لم يقصد نفعَ الغير ستنفع الغير.. فالذي يحفر الأرض سيأخذ أجراً لذلك، والذي يضرب الطوب سيأخذ أجراً لذلك، وكل من يشترك في عمل لإقامة هذا البنيان من بناء أو إدخال كهرباء أو توصيل مياه أو تحسين وتجميل كل واحد من هؤلاء سيأخذ أجره، وبذلك يستفيد الجميع وإن لم يقصد المتحرك في الحياة.
إذن فالحق يريد أن يحمي حركة المتحرك في الحياة لأنه لو لم يحم الله ثمرة حركته في الحياة؛ لاكتفى المتحرك في حركته بما يقوته ويقوت من يقول، ويبقى الضعيف في الحياة؛ فمن ذا يعوله؟. إذن لابد أن يضمن للمتحرك ماله حتى يتشجع على الحركة إن الله الذي وهب الناس أرزاقهم، عندما يطلب من القوي المتحرك أن يعطي أخاه الضعيف المحتاج قرضاً، لا يقول الله: (اقرض المحتاج)، ولكنه جل وعلا يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].
إن الله سبحانه وتعالى قد احترم حركة الإنسان المتحرك في الحياة وجعل المال مال المتحرك، فلا يقول الله للمتحرك: أعط المحتاج من المال الذي وهبتك إياه. لا، إنه مال المتحرك، ويقول الله للمتحرك: اقرضني لأن أخاك في حاجة إليه، كما نقول للتقريب لا للتشبيه ولله المثل الأعلى أنت تأخذ من حصالة ابنك لمصلحة أخيه، وتعد ابنك الذي أخذت من حصالته أنك سوف تعطيه الكثير. والمال الذي أخذته من حصالة ابنك قرضا أنت الذي أعطيته له أولا.
إذن فالله يريد أن يحمي حركة الحياة، وإن لم نحم حركة الحياة، لا يكون كل إنسان آمناً على ثمرة حركته، فستفسد الحياة كلها ويستشري الضغن والحقد والذي يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36-37].
وساعة يتفشى الضغن في المجتمع فلا فائدة في هذا المجتمع أبداً. إذن فالحق حين يوثق الديْن يريد أن يحمي حركة المتحرك؛ لأن الناس تختلف فيما بينها في الحركات الطموحية. ولا توجد الحركات الطموحية في كل الناس، بل توجد في بعضهم، فلنستغل حركة الطموح عند بعض الناس؛ لأنهم سيفيدون المجتمع: قصدوا ذلك أو لم يقصدوا.
وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضاً الإنسان من نفسه؛ لأنه إن علم أن الديْن الذي عليه موثق، ولا وسيلة لإنكاره حاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليؤديه. وحين يتحرك الإنسان ليؤدي عن نفسه الدين فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة، ويزداد النفع. وهكذا نرى أن الله أراد بالتوثيق للدين حماية المديْن من نفسه؛ لأن المدين قد تطرأ عليه ظروف فيماطل، وإذا ما ماطل فلن تكون الخسارة فيه وحده، ولكنه سيصبح أسوة عند جميع الناس وسيقول كل من عنده مال: لا أعطي أحداً شيئاً لأن فلاناً الغني مثلي قد أعطى فلاناً الفقير وماطله وأكله، وعند ذلك تتوقف حركة الحياة ولكن إذا كان الدين موثقا ومكتوبا فإن المدين يكون حريصا على أدائه. والله يريد أن يضمن لحركة الحياة دواماً واستمراراً شريفاً نظيفاً. ولذلك نجد في آية الدَّين أن كلمة (الكتابة) ومادتها (الكاف والتاء والباء) تتكرر أكثر من مرة بل مرات كثيرة.
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
وهذا التكرار في هذه الآية لعملية الكتابة يؤصل العلاقة بين الناس؛ فالكتابة هي عمدة التوثيق، وهي التي لا تغش، لأنك إن سجلت شيئاً على ورقة فلن تأتي الورقة لتنكر ما كتبته أنت فيها، ولكن الأمر في الشهادة قد يختلف، فمن الجائز أن يخضع الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة، ولذلك فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين يقول: (أن يكتب كما علمه الله) أي أن يكتب الكاتب على وفق ما علمه الله، فكأنه لابد أن يكون فقيهاً عالماً بأمور الكتابة، أو (كما علمه الله) أي أنّ الله أحسن إليه وعلمه الكتابة دون غيره، فكما أحسن الله إليه بتعلم الكتابة فليحسن ولْيُعَدِّ أثر الكتابة إلى الغير.
وليست المسألة مسألة كتابة فقط، إنما ذلك يشمل ويضم كل شيء أو موهبة خص الله بها فرداً من الناس من مواهب الله على خلقه؛ فالمؤمن هو من يعمل على أن يعدي أثر النعمة والموهبة إلى الغير. وعليك أن تعدي أثر مواهب الغير إليك فتنفع بها سواك، وبذلك يشيع الخير ويعم النفع لأنك إن أخذت موهبة فستأخذ موهبة واحدة تكفيك في زاوية واحدة من زوايا حياتك، وعندما تعديها للجميع وتنقلها إليهم فيعدي الجميع مواهبهم المجتمعة لمصلحتك، فأيهما أكسب؟
حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس، تكون أنت الأكثر كسباً؛ لأن الجميع يعدون وينقلون مواهبهم إليك. وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة، وعندما تتقنها فإن الله يسلط جنود الخواطر على كل من يصنع لك شيئاً أن يتقنه، كما أتقنْت أنت لسواك. وبعد ذلك يعلمنا الحق سبحانه شدة الحرص على التوثيق فيقول: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ...}.


{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}. إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في السفر فلم يشرِّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرَّع أيضا للسفر {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إنه الطموح الإيماني، لم يَسُدّ الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ}. وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي (الديْن)، والمسألة الثانية هي (الرهان المقبوضة) وهي مقابل الديْن. فواحد مأمون على الرهن في يده. والآخر مأمون على الديْن. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن، ومن بيده الدَّيْن ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر ديْنه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟.
أنضمن الظروف؟. نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك: إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك.
ومعنى (أمانة) أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة، أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك: ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل.
والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمُّل الأمانة وكأنها قالت: إنّا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل.
وهنا نُذَكِّر الإنسان: إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم. وهو جهول لأنه قدّرَ وقت التحمل، ولم يقدّر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها.
إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلاّ أنه عرضة للأغيار، لذلك قال الحق سبحانه: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط، ولكنّك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضاً، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
ويقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وهذه الكلمة {وَلاَ تَكْتُمُواْ} إنما هي أداء معبر، لأن كلمة (شهادة) تعني الشيء الذي شهدته، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً.
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، وما دام الأمر مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن كلمة (الكتم) تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع.
لذلك يأتي الأمر من الحق؛ {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه}. وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟.
إن الشاعر يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنّك تذْكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة.
وعندما يقول الحق: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} إنّ كل الجوارح تخضع للقلب: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة.
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟. إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر.
إن النعمة تحب المُنعم عليه بضم الميم وفتح العين أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق، فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له: لن تنال مني خيراً. وليجربها كل إنسان.
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك، إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي إليك لتخدمك. وأيضاً فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله، يفضل به بعض خلقه، فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة. وحين تعترض على قدر الله في النعمة فإن الحق سبحانه لا يجعلك تنتفع منها بشيء.
فإن رأيت قريباً حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده. ولو أحبوها لسعت النعمة إليهم. إن المنهج الإلهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة بحيث إذا رأيت أنا النعمة عندك ونلت منها، أحببتها عندك، وحين أحب النعمة عندك فإن العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ، ولا تجد فارقاً بين واجد ومعدم. إنك لا تجد فارقاً بين واجد ومعدم إلا في مجتمع لا يؤدي حكم الله في شيء.
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً، ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا، وبذلك يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟ لا.
والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وقال في حجة الوداع: (إن كل ربا موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله).
وتلك سمة سمو التشريع السماوي، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول: سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالاً للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً.
لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبداً فيما يقنن وأن القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسماً لولي الأمر أو اصطنع شيئاً فالتبعة على من فعل له وعليه، وبذلك تستقيم الأمور. لكن أن تظهر الحقائق في استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام، فهنا نقول: ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟. وأين كانت الحقائق في وقتها؟.
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولاً وعلى من يعول. هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (وربَا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبَانا، رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله).
وفي معركة بدر، أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بيته ليحاربوا؛ لأنه لو لم يخرج أحداً من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار: إنه يحمي أهل بيته، ولو أن أجر الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقدم أحبابه للقتال؟
لكن هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه، فهو العارف من ربه بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة. هكذا كانت المحاباة في صدر الإسلام، إنها محاباة في الباقي، ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني.
وحين يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي يجب أن تقوم، حرب من الله المالك القادر على المحاربة، أما الضعاف الذين لا يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلامياً وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}، وتقنيناً للعقيدة في قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين}، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولاً في سبيل الله، والإنفاق على المحتاجين. يقول سبحانه بعد ذلك: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ...}.


{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
استهلت الآية بتقديم {لله} على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب.
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عَرَضَاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب.
وكلمة (لله) تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى الله، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم.
نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار، وما دامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا، وأن يتكاملوا، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا، والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده والعياذ بالله لا، إن الله يبلغنا: أنا لي ما في السماوات وما في الأرض، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس.
ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى، أو الجاه، أو أي مجال، لهؤلاء نقول: احذر حين تتم لك النعمة، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنىً وعافيةً وأولاداً، أنت من الأغيار، وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك من الأغيار، فإن النعمة تتغير إلى الأقل. فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فلابد له أن ينزل عن هذه القمة، ولذا يقول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه *** ترقب زوالاً إذا قيل تم
والتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربية التي دخلت على الخليفة وقالت له: أتم الله عليك نعمته. وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا، وأعلنوا سرورهم، لكن الخليفة قال لهم: والله ما فهمتم ما تقول، إنها تقول: أتم الله عليك نعمته، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق. وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة.
والشاعر يقول:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة *** فكيف آسى على شيء لها ذهبا
إن النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟
والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي: أن الكون كله لله، والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفر على الله، والحق سبحانه لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا.
إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه.. فسبحانه يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13-14].
والحساب معناه أن للإنسان رصيدا، وعليه أيضا رصيد. والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا (له وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9].
إن حساب الحق دقيق عادل، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة، فصاروا من أصحاب النار.
إذن نحن أمام نوعين من البشر، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب، وهؤلاء الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب. فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم. استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف، الذين ينالون المغفرة من الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا. ولو لم يجيء أمر أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد: لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم، وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم.
لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده، لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق، لذلك يطمئننا الحق سبحانه فيقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70].
إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان، ويطمئننا أيضا على أنه سبحانه سيجازينا على ما أصابنا من شر الأشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم لتضاف إلى ميزاننا، إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين: طمأننا الحق على ما فعلناه من خير، فلا يُنسى أنه يدخل في حسابنا، وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الأشرار وسيأخذ الحق من حسناتهم ليضيفها لنا.
ونحن نجد في الكون كثيراً من الناس قد يحبهم الله لخصلة من خصال الخير فيهم، وقد تكون هذه الخصلة الخيّرة خفية فلا يراها أحد، لكن الله الذي لا تخفى عليه خافية يرى هذه الخصلة في الإنسان، ويحبه الله من أجلها، ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل قليلة، فيجعل بعض الخلق يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات هؤلاء ليزيد في حسنات هذا الرجل.
ومعنى {تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} أي تصيروا الوجدانيات إلى نزوعيات عملية، ولكن هل معنى {أَوْ تُخْفُوهُ} هو ألا تصيروا الوجدانيات النفسية إلى نزوعيات عملية؟ لا، فليس لكل شيء نزوع عملي، ومثال ذلك الحب؛ إن الإنسان قد يحب، ولا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه محترق في حبه، وكذلك الذي يحقد قد لا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده، إذن فهناك أعمال تستقر في القلوب، فهل يؤاخذ الله بما استقر في النفوس؟
إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لأننا وجدنا بعضا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سمع هذه الآية قال: لئن آخذنا الله على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن. وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء. وبلغ ذلك الأمر ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من هذه الآية. فأنزل الله بعدها {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى آخر السورة. ولنعلم أن نوازع النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه (هاجس) وهناك شيء آخر اسمه (خاطر) وهناك ما يسمى (حديث نفس)، وهناك (هم) وهناك (عزم)، إنها خمس حالات، والأربع الأولى من هذه الحالات ليس فيها شيء، إنما الأخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول كل حالة بالتفصيل.
إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة، أما الخاطر فهو يخطر.. أي يسير في النفس قليلا، وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه، وأما الهم فهو استجماع الوسائل، وسؤال النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها الإنسان رغباته، أما العزم (القصد) فهو الوصول إلى النهاية والبدء في تنفيذ الأمر.
والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} وقد وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند هذا القول وتساءل بعض من العلماء: هل الآية التي جاءت بعد ذلك والتي يقول فيها: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل هي نسخ للآية السابقة عليها؟
ولكن نحن نعرف أن الآية هي خبر، والأخبار لا تنسخ إنما الأحكام هي التي يتم نسخها، وعلى ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ الأمر هو المعنى بقوله الحق: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} فهذا هو الذي يحاسبنا الله عليه.
وعندما يقول الحق سبحانه: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فمن هم؟ لقد بين الله من يشاء المغفرة لهم، إنهم الذين تابوا، وهم الذين أنابوا إلى الله، هم الذين قال فيهم الحق: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70].
وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها الإنسان المكلف من الله وقفة ليرى فضل الله، لأن الذي صنع سيئة ثم آلمته، فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها، فإن الله يكتب له حسنة. ولكن الذي لم يصنع سيئة لا تفزعه هذه، وبعض العارفين يقول: رُبّ معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة. أورثت عزا واستكبارا.
إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب الإسراف على أنفسهم في شيء ما قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه لا يزال يؤرقهم.
يكون الواحد منهم قويا في كل شيء، إلا أنه ضعيف أمام مسألة واحدة، وضعفه أمام هذه المسألة الواحدة جعله يعصي الله بها وهو يحاول جاهداً في النواحي التي ليس ضعيفاً فيها أن يزيد كثيراً في حسناته، حتى يمحو ويذهب الله هذه بهذه. فالخير الشائع في الوجود ربما كان من أصحاب السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين: ربما هذه تحمل تلك.
لكن الذي يظل رتيباً هكذا لا تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه. ولذلك يجب أن ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم لا في زاوية واحدة، ولكن في زوايا متعددة، ونتأدب أمامهم وندعو الله أن يعفيهم مما نعرفه عنهم، وأن يبارك لهم فيما قدموه؛ ليزيل الله عنهم أوزار ما فعلوا.
وبعض العلماء يرى في قوله الحق: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن الله قد جعل المغفرة أمراً متعلقاً بالعابد لله، فإن شئت أن يغفر الله لك فاكثر من الحسنات حتى يبدل الله سيئاتك إلى حسنات. وإن شئت أن تعذب وهذا أمر لا يشاؤه أحد فلا تصنع الحسنات.
وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا الإيمان به فإنه يُملكنا الزمام. وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الاختيار، والدليل واضح في الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خيرٌ منهم وان تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلىّ ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَةً).
إذن فبمجرد إيمانك ملكك الله الزمام، فإن أردت أن يتقرب الله إليك ذراعا، فتقرب أنت إليه شبرا، فالزمام في يدك.
وإن شئت أن يتقرب الله منك باعا، فتقرب أنت ذراعا. وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك مهرولاً جرياً فأت إليه مشيا. فبمجرد أن يراك الله وأنت تقبل وتتجه إليه، كأنه يقول لك: لا.. استرح أنت، أنا الذي آتي إليك.
ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلاة حين تؤمن أيها العبد بالله وبعد ذلك ينادي المؤذن للصلاة، فتذهب أنت إلى الصلاة، صحيح أنت تذهب إلى الصلاة المفروضة، لكن هل منعك الله أن تقف بين يديه في أية لحظة؟. لقد طلب الله منك أن تحضر بين يديه خمس مرات في اليوم، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً لك أيها المؤمن فالله لا يمل حتى يمل العبد.
والإنسان في حياته العادية ولله المثل الأعلى إذا أراد أن يقابل عظيماً من العظماء فإن الإنسان يطلب الميعاد، فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد أو يرفض. وإذا قبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد، فإن العظيم من البشر يحدد الزمن، ويحدد المكان، وربما طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع المقابلة. لكن الله يترك الباب مفتوحاً أمام العبد المؤمن، يلقى الله عبده في أي شيء، وفي أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان.
حسب نفسي عزاً بأنَّيَ عبد *** يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
هو في قدسه الأعز ولكن *** أنا ألقى متى وأين أحبُّ
الزمام إذن في يد من؟. إن الزمام في يد العبد المؤمن. لذلك فالذين قالوا في فهم {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} إن البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم، فإن شاء البشر أن يغفر الله لهم فإنهم يفعلون أسباب المغفرة، ويتوبون إلى الله، ويكثرون من الحسنات، ومن يريد أن يتعذب فليظل سادراً في غيه في فعل السيئات. ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون...}.

88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95